هكذا وصل الإسلام إلى بلادنا (1)
الحديث عن الفتوحات الإسلاميّة في شمال أفريقيا، أصبح أكثر من ضروري في أيامنا هذه التي رزئنا فيها بنابتة تتنكّر للفتح الإسلاميّ لبلاد المغرب وتنعته بـ”الغزو العربي”، وتتّهم رجاله بأنّهم محتلّون قصدوا سبي النّساء وجمع الغنائم! ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا))، حتى يدرك الجيل الجديد من شبابنا وندرك جميعا عظيم نعمة الله علينا أن بلّغ رسالة الإسلام إلى ديارنا، بأيدي وأرواح ودماء رجال هِممهم تناطح السّماء وعزائمهم تفلّ الحديد وغاية أمانيهم أن تدين الأرض كلّها بدين الله الحقّ.. فعاش أجدادنا الأوائل مسلمين وماتوا مسلمين، ونشأنا نحن مسلمين، ونسأل الله أن يتوفّانا مسلمين.
بعد أن دانت مصر بالإسلام، بداية من العام العشرين للهجرة، تطلّع المسلمون الفاتحون لمواصلة مسيرة الفتوحات، وتاقت نفوسهم لفتح بلاد المغرب، لكنّ الفاروق الذي علم عن صعوبة أرض المغرب ووعورتها ما علم، أمر عمرو بن العاص أن يتريّث، وعندما استشهد الفاروق وبويع لعثمان بن عفّان بالخلافة، أذن لعمرو بن العاص بالإعداد لنشر رسالة الإسلام في الشّمال الأفريقيّ وتخليص أهله من الاحتلال البيزنطي، فقاد عمرو بن العاص حملة استكشاف عسكرية، خاض خلالها الأراضي التابعة لليبيا حاليا، حتى بلغ إلى برقة ثمّ إلى مشارف طرابلس في الغرب الليبي، على طول مسافة لا تقلّ عن 2000 كم، وفتح طرابلس بعد قتال ضار مع الروم والبربر، ولأنّ الغرض كان استكشاف الأوضاع، فقد عاد عمرو بن العاص بمن معه إلى مصر.
في السنة 27هـ، ولّى عثمان بن عفان رضي الله عنه، واليا آخر على مصر، هو الفارس المغوار والليث الهصور والصحابيّ المرضي عبد الله بن أبي السرح، الذي قاد ثلاث حملات لفتح بلاد المغرب، شارك فيها عدد من الصّحابة وأبنائهم.. عبر ومن معه من الفاتحين الأراضي التابعة لليبيا حاليا، ليصل إلى سبيطلة –الواقعة حاليا وسط الأراضي التونسيّة- حيث تتمركز الجيوش البيزنطية، وخاض المسلمون الذين لم يتجاوز عددهم 20 ألفا معركة حاسمة مع الروم الذين فاق تعدادهم 150 ألف مقاتل، يقودهم القائد جرجير الذي كان ملكا بيزنطيا مستبدا يهابه أهل المغرب.
عندما علم جرجير بمقدم الجيش الإسلاميّ خطب في جنده من البيزنطيين والبربر يحمّسهم للقتال ويغريهم بأنّ نهاية العرب والمسلمين ستكون على أيدي أهل سبيطلة، وأعلن عن جائزة مجزلة لمن يقتل قائد المسلمين عبد الله بن أبي السرح بلغت ألف دينار وزاد على ذلك أنّه عرض ابنته زوجة لمن يأتيه برأس القائد المسلم.. ولكنّ آماله خابت أمام رجال يفتّون الحجارة ويفلّون الحديد، حيث انتهت المعركة بنصر مؤزّر للقلّة المسلمة، وأسفرت عن اندحار البيزنطيين وقتل قائدهم جرجير، على يد الفارس المغوار الذي لا يشقّ له غبار الصّحابيّ عبد الله بن الزبير الذي كان يومها شابا يافعا في السابعة والعشرين من عمره.. وصلت الفتوح إلى أواسط تونس، لكنّ الفاتحين لم يلبثوا طويلا حتى اضطرّوا للعودة إلى مصر التي تعرضت لغزو من الجنوب من قبل النوبة أهل السودان.. ثمّ انشغل المسلمون بعدها بالفتنة الكبرى التي بدأت أواخر عهد عثمان بن عفان واستغرقت عهد علي بن أبي طالب، وخلال هذه الفترة نكصت كثير من قبائل البربر، وخرجت بلاد كثيرة في المغرب عن سيطرة المسلمين.
عندما استقرّ الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ، أرسل في سنة 45هـ صحابيا اسمه معاوية بن حديج السكوني -رضي الله عنه- في حملة جديدة لإعادة فتح أفريقيا، وقد أمكن معاويةَ بن حديج استعادة عدّة مناطق من الروم والبربر، ووصل إلى بنزرت، في شمال تونس حاليا. لكن الجيش سرعان ما انسحب إلى مصر مرة أخرى، بعد أن ترك حامية في برقة الليبية.
في سنة 49هـ، انتدب معاوية بن أبي سفيان عقبةَ بن نافع الفهري، هذا القائد المحنّك الذي ولد في حياة النبي –صلّى الله عليه وسلّم- عاما قبل الهجرة؛ انتدبه لقيادة الفتوح في بلاد المغرب.. كان عقبة في برقة، فتوجه بدايةً إلى الجنوب الشرقي، إلى ودان، ثم فزان، ثم إلى غدامس في أقصى الغرب الليبي حاليا، ثم اتّجه إلى سبيطلة، وقربها أسس مدينة القيروان سنة 50هـ، لتكون مركزا للدعوة والتعليم وتكوين العلماء والدعاة، لتعليم أهل المغرب دين الله تعالى.
في سنة 55هـ، عُزل عقبة بن نافع عن ولاية أفريقيا، وخلفه أبو المهاجر دينار، الذي كان رجلا حليما حكيما، لاحظ أنّ الروم كانوا يحاولون استمالة البربر ضدّ المسلمين، وكانوا يوهمونهم بأنّ المسلمين غزاة يريدون أموالهم وأراضيهم.. لذلك عمل أبو المهاجر على كسب مودة أهل البلاد من البربر وإقناعهم بأنّ المسلمين حملة دين وخير وهداية.. رأى أبو المهاجر أنّ الروم لا يزالون يسيطرون على سواحل أفريقيا، من بنزرت في تونس إلى طنجة في المغرب، فقرر أن يزعزع كيانهم، وبالفعل اتّجه إلى قرطاجة شمال تونس حاليا فحاصرها حتى اضطر الروم إلى الصلح، ثمّ اتّجه إلى المغرب الأوسط -الجزائر حاليا- حتى وصل إلى أراضي ميلة، وبنى مسجده المعروف هناك.. مكث أبو المهاجر في ميلة سنتين يتواصل مع البربر ويحاول تعريفهم برسالة الإسلام، وقد نجحت سياسته نجاحاً باهراً ودخل كثير منهم في دين الله، وانفصلوا عن الروم، وهدأت المناطق المحيطة بميلة هدوءًا تاما.
بلغ سمعَ أبي المهاجر دينار أنّ بعض البربر والروم في ضواحي تلمسان يستعدون لقتاله، وكان أكثرهم من قبيلة أوربة التي يتزعمها رجل نصرانيّ يقال له كسيلة، كان متعاونا مع الرّوم معتدا بنفسه محبا للزعامة، فانتدب أبو المهاجر المسلمين للمسير، وكان اللقاء في ضواحي تلمسان، وأنزل الله نصره على جنوده، وولى كسيلة ومن معه الأدبار، ولم يلبث أن أسر وأحضر بين يدي أبي المهاجر الذي أحسن إليه وعامله معاملة الملوك وعرفه بالإسلام، فأسلم كسيلة ومعه خلق كثير من قبيلته، سنة 59هـ.